النظريات المفسرة لأسباب حدوث التوحد (Theories of the Causes of Autism)
لا يزال السبب الأساسي لإضطراب التوحد غير معروف وغير واضح. بعض الدراسات أرجعته لأسباب نفسية واجتماعية، والعلاقة بين الوالدين والطفل وما بينهما من تفاعل. وهناك من أكد على الأسباب والاحتمالات المتعلقة بالأعصاب، كما أشارت دراسات إلى وجود أسباب تتعلق بالجينات وظروف الحمل والولادة.
يعد التوحد من الألغاز المحيرة نظراً لتباين خصائصه، لذا فقد ظهرت تفسيرات عديدة في محاولة لفهم هذا الاضطراب. ولقد أجريت الكثير من الأبحاث على أسباب التوحد، ولكنها لم تقدم حتى يومنا هذا إلا القليل من النتائج. يوجد العديد من النظريات التي تفسر سبب حدوث سلوكيات التوحد لتشمل مختلف التوجهات، فمنهم من يتمسك بالنظريات البيئية وآخرون يركزون على العوامل الوراثية والتكوينية، وتوجد وجهات نظر أخرى تتخذ موقفاً وسطاً في هذا الصدد. (إبراهيم فرج، 2004، 109)
من النظريات التي حاولت تفسير أسباب حدوث التوحد نجد أن هناك نظريات نفسية وأخرى اجتماعية وثالثة بيولوجية. ويرجع هذا التعدد إلى عدم التوصل حتى الآن إلى سبب وحيد أو أكيد للإصابة بهذا الاضطراب، وسوف تستعرض الباحثة هذه النظريات بشيء من التفصيل.
أولاً: النظريات النفسية
لقد تعددت النظريات النفسية التي حاولت تفسير التوحد، فمنها نظرية كانر (Leo Kanner، 1943)، ونظرية الآباء المتبلدين أو الباردين، ونظرية فصام الطفولة.
1 – تفسير كانر
تعد النظريات النفسية من أول النظريات التي حاولت تفسير حدوث التوحد، ويعد ليو كانر (Leo Kanner، 1943) هو صاحب أول نظرية نفسية تفسر حدوث التوحد. حيث ترتكز نظريته على العلاقة بين الآباء والطفل، وعدم الاكتراث بالطفل والعزلة التي يجد نفسه فيها بعد انفصام علاقته مع أمه في مرحلة مبكرة من نموه هما السبب في وجود المشكلات السلوكية والاجتماعية لدى الطفل. وبالتالي فإن الخلل في هذه العلاقة يزود الطفل بمشاعر الغضب تجاه الأب أو الأم غير المستجيبة وجدانياً للطفل، وهذا الانسحاب الاجتماعي للطفل يؤدي إلى إصابته بالتوحد.
وقد حاول كانر تأكيد نظريته من خلال كتاباته التي أشار فيها إلى أن جميع آباء الأطفال الذين تم تشخيصهم بأنهم مصابون بالتوحد من قبله كانوا ذوي تحصيل عملي مرتفع، ومع ذلك كانوا غريبي الأطوار، مفرطي الذكاء والإدراك الذهني، صارمين، منعزلين، جديين ويكرسون أوقاتهم لأعمالهم أكثر من عائلاتهم. بناءً على ذلك يرى كانر أن إصابة الطفل بالتوحد ترجع أيضاً إلى وراثة الطفل لصفات آبائه أو انعزالهم عن المجتمع بصورة مبالغ فيها، أو ترجع إلى الأساليب الغريبة التي يعتمد عليها هؤلاء الآباء أثناء تربية أطفالهم، أو قد ترجع إلى العاملين السابقين معاً (لورنا وينج، 1996؛ روبرت وآخرون، 1992؛ ديفيد و مارتن، 1995؛ ديفيس، 2002).
2 – نظرية الآباء المتبلدين أو الباردين (Refrigerator Parents)
وضع برونو بتليهايم (Bruno Betleheim) نظريته في بداية الخمسينيات من القرن الماضي وقد امتد تأثيرها ما يقرب من عشر سنوات. وقد أكد بيتلهايم نظرية كانر، حيث أشارت نظريته إلى ردود الأفعال التكيفية للرضع والأطفال الصغار ما هي نتيجة للرفض والمشاعر السلبية من الآباء. فالاطفال ينسحبون ويعزلون أنفسهم عن التفاعل الاجتماعي.
وقد أوضحت نظرية بتليهايم أن الرسائل الوجدانية التي تصل إلى الطفل من الآباء أو القائمين على رعايته هي رسائل تتسم بعدم الحب أو رسائل متناقضة، مرة تتسم بالحب ومرة أخرى بعدم الود. ولذلك فقد عولت هذه النظرية كثيراً على الدور الذي يلعبه الأهل أو القائمين برعاية الطفل من خلال ما يتسمون به من عدم حب للطفل أو برود انفعالي أو تبلد (فيليب، 1995).
3 – نظرية فصام الطفولة
وضع هذه النظرية كل من سينجر وويمن (Singer & Wymmen) في عام 1963. وقد أشارت هذه النظرية إلى أن التوحد هو شكل من أشكال الفصام المبكر (فصام الطفولة) والذي يمكن أن يتطور فيما بعد في مرحلة المراهقة ويظهر أعراض الفصام كاملة في هذه المرحلة. ووفقاً لهذه النظرية، فإن الطفل يوجد في بيئة تتسم بالتفاعل الأسري غير السوي فلا يشعر بالتكيف والتوافق النفسي الانفعالي مما يؤدي إلى رغبة الطفل في تحقيق التوازن النفسي الانفعالي ولكنه يفشل في تحقيق ذلك. ومع تكرار محاولاته وإخفاقه، يصاب بالإحباط والاكتئاب النفسي، ولذلك ينسحب انفعالياً من هذا التفاعل المنفر، ومن ثم يبدأ الطفل في توجيه انتباهه إلى ذاته لتحقيق التكيف النفسي الانفعالي مع ذاته وليس مع الآخرين. ثم يستغرق في توجيه انتباهه إلى أحلامه نحو عالمه الداخلي الخاص به، ومع نمو الطفل يظل منغلقاً على ذاته فتظهر وتتطور لديه أعراض شبيهة بأعراض الفصام (أعراض التوحد). كما أشارت دراسة بورد وكيربشان (Burd & Kerbshan) إلى حالة طفلة تعاني من التوحد عمرها 22 شهراً، ويشير تاريخ الحالة إلى قيام الوالدين برحلة تركت فيها الإبنة مع الجدة وأخذت تبكي لمدة 9 ساعات وتردد كلمات "ماما ذهبت" حتى نامت، وعندما استيقظت صباحاً ذهبت إلى النافذة وكررت "ماما ذهبت" وبعدها أصبحت هادئة وتجنب التفاعل مع أعضاء الأسرة، وفي اليوم التالي توقفت عن الكلام وبدأت أعراض التوحد الأخرى كالحملقة واللعب بشكل غير مميز (الهامي عبد العزيز، 1999).
ثانياً: النظريات الاجتماعية (Social Theories)
يرى رواد هذه النظريات أنه يمكن النظر إلى التوحد باعتباره اضطراباً في التواصل الاجتماعي، حيث أن المهارات اللغوية والإدراكية للأطفال التوحديين كانت طبيعية في البداية، ونتيجة لظروف التنشئة الاجتماعية ينتج عنها انسحاب الطفل من التفاعل الاجتماعي مع الوسط المحيط به، وانغلاقه على ذاته لإحساسه بعدم التكيف. كما بينت أيضاً أن التوحديين لديهم إعاقات عضوية تعوق عملية التواصل مع الآخرين بصورة طبيعية. كما أوضحت تلك النظرة الاجتماعية أن ميول واتجاه آباء وأمهات الأطفال التوحديين تلعب دوراً أساسياً في إعاقة ميكانيزم التواصل مع هؤلاء الأطفال، كما أن ظروف التنشئة الاجتماعية التي تتسم بالعواطف الجافة ونقص التواصل اللفظي بين الأبوين والطفل تعد من العناصر الأساسية المسببة للتوحد، وخاصة في مرحلة الطفولة المبكرة التي تتكون فيها شخصية الطفل، حيث أنها تؤدي إلى انسحاب الطفل من التفاعل مع العالم الخارجي وانغلاقه على ذاته.
وقد قدم نموذج اجتماعي لتفسير التوحد كما يلي:
شكل رقم (2) يبين نموذج اجتماعي لتفسير التوحد. (إعاقة واضطراب عضوي - ظروف تنشئة اجتماعية تتسم بالعواطف الجافة - انسحاب الطفل اجتماعياً وانغلاقه على ذاته)
وأشارت لورنا وينج (Wing, L.) إلى أن القصور الأساسي في التوحد هو قصور اجتماعي، وهذا القصور الاجتماعي يظهر في ثلاث مجالات مختلفة أطلقت عليها اسم أوجه القصور الثلاثية للتفاعل الاجتماعي (هدى أمين، 1999).
من عرض الآراء والنظريات المفسرة لحدوث التوحد يبدو أن التشابه والتداخل كبير بين هذه النظريات الاجتماعية والنظريات النفسية، وبالتالي فما ينطبق على النظريات النفسية من نقد ينطبق أيضاً على النظريات الاجتماعية.
ثالثاً: النظريات البيولوجية
حيث أن نظريات الأسباب البيولوجية تهدف إلى تفسير التوحد على أساس نمو المخ والاختلافات التشريحية العصبية. وهناك أيضاً من يفسر أسباب التوحد بأنه ناتج عن التشوهات الجينية التي تتسبب في حدوث حالات غير طبيعية من التأخر في نمو الطفل. كما أشارت دراسة أن التوحد هو اضطراب ناتج عن اختلاف في تركيب الدماغ خاصة في مناطق معينة، كما يتفق مع ذلك كافة الدراسات التي أجريت على منطقة الدماغ الخاصة بالتحكم في السلوك الاجتماعي واللغوي.
1 – النظريات العصبية والبيولوجية
ترتكز النظريات العصبية والبيولوجية على تفسير التوحد من خلال القصور الوظيفي في الدماغ في مناطق معينة من الدماغ والتي تؤدي إلى حدوث التأخر الوظيفي، ومن ثم تكون أسباب التوحد وراثية وعصبية. وقد أشارت دراسة دافيد و مارتن (David & Martin) إلى أن الأطفال التوحديين قد يظهرون بعض الاختلافات في النمو العصبي مقارنة بالأطفال العاديين، كما يظهر لديهم تباين في حجم الدماغ، حيث أن معظم الأطفال التوحديين يظهر لديهم حجم دماغ أكبر من الطبيعي وتكون نسبة شيوع الإصابة بالتوحد لديهم أعلى في حالات التوحد (نيوكومب، 1995؛ بريل، 1996).
2 – دراسة الجينات
العديد من الدراسات التي أجريت على الجينات وأسباب التوحد ركزت على البحث في العوامل الوراثية التي قد تلعب دوراً في إحداث الإصابة بالتوحد. ومن أبرز هذه الدراسات هي تلك التي تمت على التوائم، حيث بينت الأبحاث أن هناك دلائل على أن التوحد قد يكون له علاقة بالعوامل الجينية والوراثية، حيث أن الدراسات على التوائم قد أكدت أن الجينات تلعب دوراً مهماً في الإصابة بهذا الاضطراب. وقد أشارت الدراسات إلى أن نسبة التوحد بين التوائم المتطابقة أعلى من التوائم غير المتطابقة، كما أن هذه الدراسات تؤكد أن وجود تاريخ عائلي للإصابة بالتوحد من شأنه أن يزيد من احتمالية الإصابة بهذا الاضطراب. (ماك برايد، 1998؛ شوبارد، 2003؛ لي، 1999).
3 – دراسة الحمض النووي
قامت العديد من الدراسات بالبحث في الحمض النووي لأطفال التوحديين، حيث أظهرت الدراسات الحالية وجود ارتباط بين التوحد وبعض الجينات المسئولة عن عملية نمو الدماغ. وتستمر الدراسات في محاولة فهم هذا الاضطراب والبحث عن الجينات المسئولة عن حدوثه، حيث أن تداخل الجينات واختلاف الحمض النووي قد يسبب مشاكل في التواصل والتفاعل الاجتماعي.
الملخص
يمكن القول بأن التوحد هو اضطراب عصبي تطوري معقد ويتطلب فهماً شاملاً يجمع بين العوامل النفسية، الاجتماعية، والبيولوجية. كل نظرية تقدم منظوراً مختلفاً ولكن يجمع بينها أنها تساهم في توسيع فهمنا لهذا الاضطراب وتساعد في تطوير استراتيجيات التدخل والعلاج المناسبة. ومن هنا، فإن التفسير الشامل والمتكامل للتوحد يتطلب مراعاة جميع هذه النظريات والعوامل المؤثرة.